لو كنت إماماً

                   اللوحة للرسام النرويجي : إدفارد مونك

الجمعة الأولى :

(1)
تبلغ قيمة الحياة حدها الأرخص في المجتمعات التي يلوح أفرادها بالقتل كحديثٍ عابر ، شاهدت قبل قليل رجلًا يشج ظهره بسيفٍ حاد حتى انسلخ جلده عن عموده الفقري ، تضحية لحدث صار قبل مئات السنين ، وسط الدم وأمنيات الآخرين بأن يحملوا ربع إيمانه .

قبلها شابٌ يشرح للعالم المفجوع كيف سيدخل قنبلة في .. جسمه كي يقتل من يختلف معه ، مخلفًا وراءه وداع من سيلقونه قريبًا وكأنهم ذاهبون لرحلة استجمام .
أيها الإنسان المهبول : كيف لك القدرة على فعل ماقد يسبب لأشد الكائنات توحشًا صدمة نفسية ؟ ماهذا الهوس بالماضي والهلاك ؟ أي معتقد ذاك الذي لايجعلك مخلصًا إلا حين تشرّح جسدك لقطع من اللحم المقدد أو المشوي ؟ كيف لنا أن نأمل ممن فقد قدرته على الحياة – بعدما أصيب بالجهل والكره – وأصبح يوزع كل هذا الموت على المارة ، أن يستقيم الواقع به؟

(2)
يسلبون نصف حياتك ، يعطونك واقعًا أعرجَ وهم يلكزون كتفك قائلين :
– هيا لاتكن حاقدًا ، تجاوز الأمر .. انظر للعالم يتغير ونحن كذلك ، كن مثلنا و انس مافعلناه بك .

الجمعة الثانية :

(1)
صاحب العصا الغليظة : كلما خنقت الأفكار ، كلما آمن الإنسان بها.. وقلقك من انتشارها يعني خوفك من اعتناق الناس ما لا تؤمن به أنت مما يعني فقدك لميزة مسؤوليتك المطلقة وتحكمك النافذ ووجودك .. لا زلت لا أفهم قلقك من فكرة تتحيز للإنسان وقضاياه ، مادامت لا تحمل سلاحاً ولا تحرض على نزع حياة آخرين ؟.. لن ينبت الوعي فجأة دون مكان صالح للتعبير وفضاء شاسع لقول كلمة منزوعة الخوف ، تحث على النهوض وتردم التخلف ، تهتم بأصل المشكلة وتتجاوز الحديث المطول عن أعراضها . لم يحدث أن ساهم التغيير نحو المزدهر سوءاً لأحد إلا من سيفقد مصالحه حينها ، فالمجتمع الميت هو الذي يشبه صخراً لا يتغير ، صلداً يعتقد أنه بذلك يتجمد على حق ، يرث آراءه كما يرث عاداته وتقاليده ، ولدى موتاه سلطة ليست لربع مليون حي من أفراده ، بل ويجد خططاً معلبة لكيف عليه أن يفكر ويعيش ويموت ليرتديها ولا يحيد عنها ، فيصبح بذلك أكثر رقابة على نفسه من غيره ، ويكتشف أن في داخله رقيباً ذاتياً متضخماً مهمته الوحيدة رسم الخطوط الحمراء له وبالتالي عجزه أكثر ، يتلمّس قضاياه الأولية – كالحرية مثلاً – بشكل مضطرب ، ويخلط بينها وبين هامشيات تجاوزها كل البشر قبل عشرات السنين مع أولويات هي حقٌ له ، و يواجه ما لم يعتد عليه بالرفض ، وينفر تلقائياً من الرأي المختلف فقط لأن أحداً منهم لم يجربه قبل ذلك فاختارالطريق الأسلم : منعه ، مما يعني وسيلة للترويج له دون قصد ، يصبح متوهماً أنه بكل ذلك يحق له الفخر بما هو عليه ، بل وبشعوره بتميزه عن غيره به ، مع أنه واقعياً يركض للخلف ، للتاريخ والتقليد. صديقي ذو العصا الحادة : ربما كنت مهتماً بأن نكون أفضل ، لكن الأمر لا ينجح عادة بهذه الطريقة ، دع الإنسان يخلق حريته ، وقيده أيضاً .

(2)
عش حياتك كما تحب ، ستبحث يومًا عن كل الذين عشت لأجلهم ، لم تجدهم .

الجمعة الثالثة :

(1)
دم الإنسان العربي المسلوب أرخص من طلقة ، من خطاب ، من فتوى .. هو القيمة الهامشية في حسابات الكبار .. القربان المتوافر وحطب الحروب .
في الوطن العربي ، لازالت قيمة الإنسان هي السفلى ، فوقها المذهب ، العشيرة ، السلطة ، كل شيء من المحتمل أن يمتطيها دون اعتراض ، فيما جاءت قيمة حيوان الآخر أغلى من كل المذبوحين منا خلال يومٍ واحد ، كحدث معتاد لم يعد يشكل فرقاً ، متساقطين من ضمير العالم كقطرات انسلّت من قميص رث مبلل فوق حبل غسيل . أما الحديث عن جرح أحدٍ منهم ، فيعني أن الأرض ستعجن بمن فيها ثأراً له ، وسيُستخدم العربي خوذة في سبيل هذه الحرب ، وشقيقه مشجعاً محتملاً .

نحن الجانب الأضعف في اللعبة ، أولئك المهمشون الذين رضوا أن يكونوا أتباعاً بلا قيمة لقوى تسلبهم خياراتهم القوى التي لا تهتم لأمر الضعفاء الذين جنوا على أنفسهم ، فكرهوا من يختلف معهم ، وقتلوا من لايشبههم ، هتفوا للظالم و ركلوا المظلوم ، فأضحوا فرائس سهلة وفئران تجارب .

(2)
صوت المنطق في كل قضية بات شاذًا فالمتعقّل منبوذ ، أما الزمان والمكان فهو لجيوش ” الهتّيفة ” الذين يتعاملون مع الأمر كجمهور متطرف يشهد عراك ديكة . المعتدلون يُسخر منهم فكلماتهم الهادئة ليست مثيرة ، المجد للهائجين المنطلقين بلا وعي ، المنتفخة أوداجهم بالشتائم والتزلف .

قف إن كنت حرًا حين ينهمر السائد من حولك وقل في وجهه : لا ! فالأحرار لاينتمون للأكاذيب وللقطيع .

 الجمعة الرابعة

(1)
إن تعرضت يومًا لثرثار يقول لك من فوق مسرح الصدفة :
” اصنع حلمك وجازف ” فتأكد أنك لن تجد بياع الكلام ذاك وأنت متورط في مستقبل لم تقرره بنضج
كيف لك أن تقبض على حياة موحشة كهذه وأنت لم تتخط العشرين ؟ يكون بطلها أنت ؟
من قال لك أن الإبداع لايولد إلا من رحم المعاناة ، الحاجة ، الفقر ، الغربة ، يدفعك لحفرة من القلق ، اصبر ، تعلم ، افهم ثم أقدم وعقلك مرتاح بالمعرفة
ليس عيبًا أن تكون موظفًا – مثلًا – كالآخرين ، ربما لاتملك شيئًا يجعلك مبدعًا ، أنت لست مميزًا وتلك ليست منقصة أو حالة غريبة ، العاديون ليسوا مرضى

(2)
تُصاب بحمى فتتكور على نفسك من الألم متمنيًا ساعة عافية ، لكنك حين تطيب تشاهد آلام المظلومين ، فتسخر منهم وتحرض عليهم .. أنت المرض بعينه

سيتم إضافة المزيد من الخُطب في وقتٍ لاحق 

29 تعليقات

  1. نايف
    2 أبريل، 2016

    استاذ فيصل كلما قرأت لك استعذت الله من شيطان قلمك انه يقنعني واصبح مسيرا خلف ماتكتب لامخير

    رد
    • فيصل العامر
      3 سبتمبر، 2016

      مرحبًا بك نايف ، حُرًا لاتسير خلف أحد .. وشكرًا على قراءتك ولطفك

      رد
  2. عبدالله
    2 أبريل، 2016

    أقم الصلاة

    رد
  3. MUNIRA
    2 أبريل، 2016

    كلام جميل ، والمطلوب من الشخص ان ينتبه علي ان من يكرهون الحياة وتمتلئ نفوسهم بكل هذا الحقد قد يكون اشخاص قريبين جدا
    ومربين او الخ فلا يخجل الانسان من ان يقف في صف الحياة وحبها ومتعها ويتوقع ان يسمع ابشع الالفاظ لانه فقط اختار ان يكون سعيد ….. ولم يسمح لمن تزوجوا الموت من التاثير عليه

    بعد قولك هذا فلنصلي من اجل عالم اكثر حبا وسعادة .

    رد
  4. عهود الغاتر
    16 أبريل، 2016

    بطريقه او باخرى انت ترجمت اشياء تجول بالخاطر
    واحس كلمة انت ميانه وانا اسفه

    رد
  5. مشاعل
    2 سبتمبر، 2016

    “دع الإنسان يخلق حريته ، وقيده أيضاً ”

    جملة عن مقال .

    رد
  6. Dalal
    2 سبتمبر، 2016

    انت الشخص الذي يكتب ما يُستحق أن يُكتب وما يُستحق أن يُقرأ.

    رد
  7. حزام
    4 سبتمبر، 2016

    فيصل العامر ……

    اعترف لك بأنك اسرتني وجعلتني انحاز وادخل عالم القراءه من بعد كتاب ( شغب ) وجعلتني قاعد على اعتاب موقع ( برزخ ) انتظر جديدك ، شكرًا بحد السماء ❤️

    رد
    • فيصل العامر
      4 سبتمبر، 2016

      يا أهلاً حزام ، أسعد الله قلبك مثلما أسعدتني بهذا

      رد
  8. يحي
    22 سبتمبر، 2016

    ونعم الكاتب انت فيصل العامر ..
    جميل جدا انك تتحدث عن مشاكل المجتمع بنظرة مختلفة
    نظرة الانسان الحر التي تجعلك تعيد النظر في الكثير من المعتقدات والافكار

    رد
  9. عثمان
    30 سبتمبر، 2016

    طريقتك في الكتابة ساحرة ومشوقة وكلامك واقعي وعقلاني

    رد
  10. محمد الحميدي
    27 أكتوبر، 2016

    المجد للهائجين المنطلقين بلا وعي ، المنتفخة أوداجهم بالشتائم والتزلف

    جملة واقعية اكثر من انها ساخرة لحالة نعيشها ونلعنها كل يوم

    شكرا لك ويا ليتك تدلنا على جامعك فلقد مللنا تلك الخطب المكررة

    رد
    • هنــد
      14 يناير، 2017

      فيصل فيييييصل فيييصل أنتا اشبك ماعاد ترد هنا

      رد
  11. عبدالله
    13 يناير، 2017

    لي الان قرابة 11 شهر. لم احضر خطب الجمعه.
    لم اعد احتمل .

    املي ان يتعلم صارخوا المنابر ان يحترموا عقولنا و آذاننا .

    شكرا فيصل

    رد
    • عبدالرحمن
      2 فبراير، 2017

      احضر لأمر ربك ياعبدالله لا تحضر لهم
      أبرئ ذمتك ..فسبيل الوصول لله يبدأ بطاعته ..ثم ستصل

      رد
  12. سلطان الحربي
    1 أبريل، 2017

    ما اروع ما تنثره بقلمٍ او بكرتون .
    ليحفظ الرب عقلاً انهك متابعيه !

    رد
  13. امل
    17 أبريل، 2017

    المتعقّل منبوذ أما الزمان والمكان فهو لجيوش الهتّفية 🙏🏻🖤

    رد
  14. reham aldosari
    18 يونيو، 2017

    .

    رد
  15. Ola khaled
    25 أكتوبر، 2017

    عظيم وجميل ورائع
    من قال أن الابداع يولد من رحم المعاناة
    المعاناة والفقر والحاجة والبؤس لا تخلق الا انسانا مشوها فكريا وعاطفيا ونفسيا
    سحقا للطغاة وسحقا للفقر
    أخبرني بالله عليك كيف صنعني طاغيتي حين سلب مني لقمة عيشي ألا يكفيني أني أعيش بلا أمن
    هل أفكر بشراء كتاب لأثري عقلي قبل أن أملأ بطني وأسد جوعي
    أعتقد أنه ليس من العيب أن لا أكون لا شيء فانا لا أملك شيئا لا موهبة ولا شيء أستيقظ أكل فأقرأ فأنام وأنا أحلم بواقع أفضل

    رد
  16. Haia
    26 أكتوبر، 2017

    بحبك💙🌏من فلسطين 🤗تحياتي لك يا فيصل..
    أتوقع أنت اخر حبه🌏💙

    رد
  17. arwa
    17 أغسطس، 2020

    فيصل : تُبهرني دائمًا ، سطورك تشنُ حرب على عقلي وتستحل قلعتي وتشيد اسوارك وسطه ويصبح هذا العقل ملكًا لافكارك ولآرائك ..
    هذه الصفحة ( لو كنت إمامًا ) منذ سنة ٢٠١٧ وهي لدي أعيدُ قرائتها متى ماشعرتُ بحاجة العودة إلى أرض الواقع ، اعتقد انه حان وقت الرحيل ، إلى اللقاء .

    رد

اضافة تعليق