و .. حرب

 

Young Saudi Boys and American Soldiers

 

   

شرق الرياض – غرة أغسطس / 1990 م

 استيقظت حين أصواتهم .. سارة تصرخ :

 – الحرب ..!

  ::

سأثرثر بالآتي .. ليس توثيقاً أو استقراءً لشأن خبأه الزمن تحت جلده .. بعيداً عن التنميق وقريباً مما يمكن أن يقوله طفل يمضغ يومه حينها كقطعة حلوى وهو ذاته الذي ارتدى الخوف بعد ذلك مكان نعليه وهرب أو هي ” ثرثرلوجيا “وحسب .

   (1)

 تفوح رائحة الحرب ..

 مع أن الكائن النحيل والذي سُمي ” فيصل ” تيمناً بالملك الصارم لم يكن يعرف ما الذي يحدث تماماً ، إلا أن كل شيء في ذلك الحي البشع كان يتهيأ  تقرع ” بق بن ” أجراسها .. موسيقى مهيبة تقتلنا ترقباً فصوتٌ رخيم : 

” سيداتي وسادتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. الواحدة تماماً في لندن .. قال متحدثون رسميون أمريكيون إن سبعة وعشرين جندياً أمريكياً قتلوا بفعل صاروخ سكود العراقي الذي ضرب شرق المملكة العربية السعودية … “

لاتنفك ذاكرتي عن بعث المشهد :

راديو كنا نطلق عليه ” الرادو الروسي ” .. يلفه إطار خشبي وتسكن جانبه الأيمن قطعة سوداء للتحويل بين قنواته .. شعرت بأهميته حين كنا نتحلق حوله ، كنت أقول في نفسي وأنا أرقب أعينهم الوجلة :

– ما الذي يمكن أن يفعله جهاز كهذا !

أخبار تُلقي بالحرب بين أيدينا .. تحليلات طويلة .. بيانات عاجلة وزيارات متبادلة .. يكتفي المتحلقون بهذه الحصيلة ..  ينفضون عنه ، قبل أن يخلد المكان للنوم .. بمنتصف الليل ، أسير على رؤوس أصابعي مبيتاً نية خطف ” الرادو ” من خلف الباب .. أنجح في ذلك .. شكّل ” الرادو ” مثقوب الوجه تضاريساً واضحة في ليلتي الأولى و خدي أيضاً حين كنت أتوسده .. أستيقظ بنصف وجهٍ ممتلئ بدوائر صغيرة هي حصيلة ليلة كاملة من الالتصاق به ، بدت هيئة الإذاعة البريطانية الأكثر حرفية بين مجموعة هائلة من الإذاعات تمتد من شرق الأرض لغربها ، حاملة سلة ضخمة من الثقافات المختلفة لمواطن صغير يعيش في بلد مغلق بإحكام .. تقرع ساعة ” بق بن ” أجراسها وبصوتٍ يبعثر السكون يتلو المذيع ماتيسر له من أخبار مرة أخرى  .. لم أكن أعلم كل مايقال حينها ، لكنه بدا لي ذا شأن ، فلم أكن أفهم بعد أحاديث السياسيين المحبوكة .. و أشياءهم تلك التي اعتادوا دسّها عن الصغار .. عند الاكتفاء ، أمرر يدي الضئيلة على محول القنوات الأسود .. وبعبثية أدحرج بكرة المؤشر لأبحث عن الإشارة الأنقى . هي البكرة التي زرعت بي الدهشة .. مئات القنوات الإذاعية التي مثلت كافة الأطياف الفكرية المعروفة وغير المعروفة .. وحوت كل الأديان التي يعتقد بها البشر .. وغير البشر ، أضحى نافذة غير متوقعة .. وفضاء ممتعاً .. امتلاء ..!

كانت قنواتي المفضلة إذاعة لندن العربية /الكويت / القاهرة / قناة مصرية مسيحية ثرثارة لا تنفك عن ذكر المعمدان / يسوع / متّا  وبقية معتقدات أبناء العم .. ولكم أن تتخيلوا هذا البدوي القادم من أقصى نجد وهو يستمع لترانيم الكنيسة : ” بصوتي إلى الرب أصرخ .. في يسوع كل الحياة ” بينما أقرانه يستمعون لـ ” ياليت سوق الذهب يفرش حرير” .. يستقر المؤشر البرتقالي على 102.2 أي : إذاعة القاهرة .. وبلهجة فصحى يشوبها ” التمصر ” وبخلفية صوتية عبارة عن مروحة مزعجة يكرر المذيع الذي يبدو شارداً كعادته :

سيداتي سادتي .. نترككم الآن مع ” تسقيل ” لفيلم : لحن الخلود من بطولة : فريد الأطرش وفاتن حمامة  ، يبدأ الفيلم وعلي التخيل .. فقط التخيل . أصوات ” كفوف” السينما المصرية المعروفة و ” فرامل ” السيارات ، صوت رنين الهاتف المزعج  وضحكات الراقصة الحادة .. تجعلك تشعر وكأنك تشاهد تلك التفاصيل ولكن بأذنيك ..!

أغفو .. في الوقت الذي تصحو فيه السيدة فاتن لتغني لحبيبها .. وأغني بدوري : شخيراً رغم الحرب.


 (2)


أثار الشرير “سكود ” ذعر سكان الرياض عصر اليوم التالي ، بدا الأمر أكثر خطورة .. أصرت سارة – أمي المقدسة – على ذلك المتعسكر العتيد في لحرس الملكي أن نغادر للقصيم ، أو الجنة ! لكم أن تتخيلوا كيف لطفل يرى بكتل من الرمال .. لعنات الصحراء .. جيوش البعارين  والبيوت المتطينة : جنة ! كانت الليلة السابقة لسفرنا للقصيم كفيلة بأن يفر النوم من عيني .. وأتمنى لو كان الصباح شيئاً أستطيع جرّه ..!

العسكري العتيد – آنف الذكر – هو أبي رحمه الله .. كان صارماً .. ترتسم على يديه مئات الأحداث والتجارب .. لازلت أذكر كيف كان يحكي لنا تفاصيل ماحدث في القصر الملكي أواخر حكم الملك سعود وأحداث المربع الدموية .. وأشياء أخرى دفنت معه .. مع إصرار والدتي ولظروف عمل أبي قرر إرسالنا لجنتي البعيدة  .. لكن هذه المرة لأجلٍ غير مسمى ، لا أعتقد لحظتها أن أحداً كان سعيداً كما كنت .. لملمت أشيائي الصغيرة بشنطة مرقطة ذات أرقام سرية والتي تستطيع فتحها بـ مفك ، لا زلت أتساءل عن جدوى تلك الأرقام السرية إذن .. أشيائي المذكورة كانت عبارة عن ثوب .. وثوب وبينهما ثوب . أما ساره فـ كانت تحمل لي معها بنطلوناً أزرق أنيقاً بحمالات وتيشيرت أصفر .. لم تكن تشجع نادياً معيناً لكن مزاج الألوان المتضاربة كان شائعاً حينها .. صفصفنا تلك الشنط الفاقعة استعداداً للسفر ..

 (3)

  كدت أختنق ، أحسست بأن أحدهم حشر الدنيا في حلقي ومضى .. دون سبب يمكن تفسيره – على الأقل لي -وفجأة ، الأب لايريد مني الذهاب هناك ، فهو يحتاجني كما عبر لي حين كان يمشط شعري بيده ، بينما كنت أرقبهم تبعدهم الخطى عني .. لا أذكر حقاً كم من الغيظ حوته روحي الضئيلة .. لم أبكِ التهمت الغصة واكتفيت بها ، غادرتني أمي ،أودعتها رائحتي لتعانق بها فردوسي المزعوم .

بعد سفرها بيوم ، لم تعد حارتنا مستساغة ، فقدت لذتها الصحراوية ، أحسست تلك الأيام أن الرياض كانت أشبه بـ قبر يتسع للكل ، لم أعلم حينها أنها ستصبح مدينة إسمنتية لا تتسع لي على الأقل ، بعد سنوات .

بدأ جبين الشمس بالسجود  ولازلت متكئًا في زاوية الحوش .. أفعّل إضرابي المفتوح عن الحديث و أرسم أحلاماً حانقة على التراب .. كانت العنود – أختي الكبرى – تهم بزيارة جارتنا المريضة ، بدت متفاعلة مع قضيتي الإنسانية وحقي بالتعبير السلمي ، صرخت بي من على الشرفة :

 – فيصل .. هل سترافقني لجارتنا ” العجمية ” ..!

أجبتها بالصمت ، وبحاجبين مائلين للأسفل .. وقفت تنتظر مني رداً ، ثم قالت :

– يقال بأن لديهم كيكة ” أبو كاس ” .. حسناً ، استمر بسكوتك .

كيكة أبو كاس تلك كانت بمثابة ” التراميسو” هذه الأيام ، ما إن سمعت ذلك حتى ارتديت الفرح وكأن شيئاً لم يكن .

الشوارع قاحلة ، مفرغة من كل شيء .. حتى النساء ، لا أعلم أين ذهبت الفتيات الصغيرات ، لا أرى إلا عجائز  يقمن بالزيارات المتبادلة كل عصرية ، يتحدثن بكل شيء ، السياسة/ شؤون المرأة / الفن / غرق المدمرة البريطانية ” شيفيلد”.
صغر سني حينها وبراءتي الموسومة بين عيني تسمح لي بالحضور بينهن فلا يتوجسن خيفة مني .. فلم أكن رجلاً يستحق أن يخبئن وجوههن لأجله خوفاً من جهنم ، كنت مستمعاً صبوراً جداً فأحاديثهن لمن ينتمي لقبيلة الذكور تكون سخيفة أحياناً ، مع أن تلك السخافة تنقشع حين يبدأن بالرقص على إيقاعات التصفيق والأغنيات التي تحمل رتماً واحداً ، ممثلاً جيداً لدور الطفل الذي لايعرف مايدور حوله .
دلفنا بيت جارتنا ، كانت دلفة عن ألف دلفة مما تعدون ، الكثير من النساء ، روائحهن وثيابهن التي لاتحوي عقد الموضة ، كان مزارًا يستحق التجربة حقاً ، خلعت عني العنود انصهاري ذاك قائلة :

 – تعال .. قبّل رأس عمتك أم نايف .

اقتربت ،لثمت رأسها المليء بـ ” الحنا “، وجهت لي أمراً آخر :

– قبّل رأس أم محمد .. أم فرحان .. قبّل تلك هناك ، هنا 

تحورت شفاهي لماكينة تفريخ قبلات رأسية .. كانت رائحة شعورهن الفاخرة شأناً لايمل .. أنهيت مهمتي الشاقة .. وبكل ما صنعه الله من أدب على هذه البسيطة التصقت بجانب أختي متدثراً بالحياء .. كانت الحرب تسيطر على ثرثراتهن المتشعبة بدءاً من آرائهن في تقييم الوضع المتأزم وصولاً لأدعيتهن بأن يهلك الله صدام ويرد كيده في نحره ، كنت أنتظر تلك الكيكة وليذهب أبو عدي وأم نايف ونورمان شوارسكوف للجحيم .. انتبهت العنود لهذا ، وربما لتكافئني على مجهودي ” التقبيلي” العظيم ، قالت :

 – تعال ، خذ .. العب مع الأطفال خارجاً .. لاتبتعد ، يا لغبائي ، من يبّدل أحاديث النساء بـ كيكة بنصف ريال ، التهمت الكيكة .. انتشيت وأنا أهمّ بمغادرة التجربة  ، قبل أن يباغتني ضميري الراديكالي والذي لم يشأ الدخول معي : ” أيها الفاسق .. الرجال ينسجون الموت على جباه الحرب وأنت هنا تقبل جباه الحريم ، قبل أن تثمل بكيكتك الحمقاء” .

 (4)

* تحتوي الثرثرة القادمة على مشاهد  غير صالحة لمن هم دون الثامنة عشرة  +18

 علاقتي مع السلاح ، علاقة حمراء .. تعرفت على الصديق الروسي Klashinkov عندما دربني عليه أبي تحسباً للحرب ، كنت أعتقد أن الحرب رجل سأستطيع قتله يوماً ما ، بهذا السلاح ..!

دعوني أشرح هذا :  طفل يحمل سلاحاً نارياً تصنفه الولايات المتحدة على أنه ” أخطر بندقية في العالم”  قد تصل سرعة طلقته 1000متر بالثانية ! بينما يحمل أقرانه في العالم الأول دمى ” ميكي ماوس ” و ” باقز بني ” وبقية العائلة الكرتونية الأخرى .

 ذات عصر .. حضنت الرفيق كلانكشوف ابن ميخائيل الذي قارب طولي ، وسدّته زندي ، سندته كـ شيخ طاعن أخاف عليه من السقوط ، لففت شماغي حول رأسي بـ حزم .. اتخذت مكاني ، رفعته كما يليق به ثم همست له بأغنياتي التي أتفاءل بها ، أغمضت عينيّ الطفوليتن .. فتحت واحدة و بكل إصرار ضغطت على الزناد .. فضجّ صوت مهيب بكل أرجاء الوادي .. لقد فعلها ، تماماً كما أردت .. أردى ” علبة الزيت ” قتيلة .. مزقها كعادته .. صفقت لي الطيور ، أحسست بأنه لم يخذلني ،صرخت :

 – قتلت الجبل يا أبي ..!

بدأ الليل يزحف ، وقفت .. نفضت حجري من بقايا الرصاص و ألحفته تلك الخرقة البيضاء ليرتاح .. أحسست به ، كان محموماً .. لم يلتفت لـ قلقي ، بدا لي نائماً  وأنا أدعو الله أن يرعاه .

 وصلت البيت قبيل المغرب ، كانت حارتنا تهمّ بغفوتها .. قبل أن يفزعها  صوت صفارات الإنذار الذي بعث فينا التوتر مرة أخرى .. قرب وقوع الخطر / الخطر / زوال الخطر .. كانت لكل حالة ” نفخة صور”  خاصة بها .. كانت تلك : حالة ” قرب وقوع الخطر” .. أحسست بضرورة أن أطلق ساقيّ للريح .. لاأعلم لم أو أين ! يبدو أن مفهوم ” الموت مع الجماعة رحمة ” كان يتشكل بي لحظتها .. طوقنا ” الرادو الروسي ” طيب الذكر جالسين ، إذاعة لندن العريقة تبدو غير واضحة تماماً .. تشويش .. ” شنت طائرات قوات الائتلاف” تشويش ” وقال قائد العمليات ” تشويش .

 كان الخوف يرسم خطاه حثيثاً على وجوهنا ، بدا الوضع مزعجاً بعض الشيء .. لم نكن نثق بالتلفاز الرسمي كثيراً فاضطررنا تلك الليلة لمشاهدته .. كانت صورة الفريق الربيعة – على ما أذكر – وتصريح عن مختصر العمليات ، وأن الأمور تجري على مايرام .. التفت أخي على يساره ، يمينه .. ثم قال :

– أين غطس سلطان  ..؟

قفزت من مكاني لأبحث عنه ،  سلطان يكبرني سناً و ..جنوناً

ناديت بوجل  :

– يا سلطان ..!

صوت قادم من أعلى :

–  تعال ، فوق

صعدت درج السطح ركضاً .. ما إن وصلت السطح حتى رأيته ، كان سلطان .. لكن بفم مُشرع ووجه يكاد يطير للسماء .. قلت بنفسي :

– هذا الولد سوف تتصعد روحه للسماء ، سيُعرج به .. سيخرج من بين ظهرانينا نبي سأصبح أميراً للمؤمنين حين يموت ، لمحني  أشار لي بيده :

– فيصل .. تعال ، تعال

وقفت بجانبه عاود نظره للسماء .. نظرت به ، نظرت للسماء ، شاهدت ذلك الصاروخ الناعم ” باتريوت ” وهو يلاحق ” سكود ” ، أخطأه .. وبثقة مفرطة لازالت تختمر بذاكرتي شق سكود الفضاء بلا وجل .. سقط باتريوت .. ماهي إلا ثوانٍ حتى لحقه اثنان آخران .. سقطا بدورهما واثنان أيضاً .. هذه المرة يبدو أن كثرتهم غلبوا شجاعته ، أحاطا به ، أنهكاه ، خرّ صريعاً ، ترجل الفارس رغماً عنه .. نظرت إلى سلطان .. قلت له بحماس :

– أريدك أن تشتري لي واحدة تشبه تلك الطائرة ..!

كنت أعتقد أن ” سكود ” ماهو إلا طائرة ورقية لاتعطى إلا لمن هم أكبر سناً .. بين يكتفي الأطفال – كحالاتي – بطائرات ورقية حتى يصلوا لمرحلة متقدمة من السنين ، لكنه قال لي ساخراً :

– ليست طائرة يا رائد الفضاء ، إنه صاروخ ..!

” كان صاروخا رجلاً .. أقسم بهذا ” ..!

هذا ماقلته لنفسي .. حين كنا نهم بالهبوط لقواعدنا في الدور الأرضي سالمين .

 (5)

 عندما نلقي بـ رؤوسنا على وسائدنا ، تبدأ سلسة طويلة من أحاديثنا الصغيرة عن الحرب التي لم نكن جديرين بها  .. يحيك سلطان أحاديثه عن سكود وباتريوت وأنهما سقطا بجانبه ولم يخفه ذلك ، بل أنه شاهد صاروخاً يكتب ” الله أكبر” وهو يهوي .. وبقية الوساوس التي لاتنفك عن إظهار رؤوسها منذ الأزل .. أما أنا فقد كنت ألتزم الصمت .. وأتمنى لو صرخت به :

 – كفى كذباً ..!

في تلك الليالي .. لم نكن نحظى بما يكفي من النوم .. كنا نتلحف الترقب كل ليلة ، ترقب ماذا ؟ لا أعلم ، فقد كنت أصغر كثيراً من الحرب . كنا نتكدس بغرفة واحدة لنخلق من الأرض سريراً .. وعند الصباح ، تظهر أجمل اللوحات الجسدية و التي اختلطت بها الأيادي بالأرجل ولم يكن مستغرباً أن تنام بفراشك بشكل سلمي  لتجد نفسك وقد قذفك احتلالهم الغاشم  إلى خارج حدود ” المقلط” .. !

بمعنى آخر : كان النوم بجانبهم بمثابة الدخول لقفص من الفيلة متنكراً بلباس فأر ! ورغما عني ، وقهراً لإرادتي الطبيعية أكون أول من يستيقظ ، أجرجر أرجلي مأرجحاً يديّ وقد انحسر ثوب نومي المخطط وطال سروالي الأبيض عن حدود رجلي اليمنى وبشعر مخيف .. أتجه لأغسل وجهي المتكدس .. أنضح الماء عليه و بلا رغبة تذكر ، أرفع رأسي للمرآة صوت محروم يتمتم بداخلي :

– أريد كسرة من نوم يارب ..!

تمر ثوانٍ .. أرضخ كـ كل صباح لنداء الواقع ، أتجه لدولابي الحديدي الذي تحتل جزءه الأيسر مرآة تجلب لي آخر أخبار وجهي .. تأنقت كما يليق بطفل صغير ، لبست ثوبي الدفة الذي كلفني 55 ريالاً .. لا يسألني أحدكم كيف كانت تلك 55 ريالاً تصنع المعجزات ..! حاولت مراراً أن أسرح شعري جانباً .. لكنه لم يكن مطيعاً – كما يفعل دائماً – بعد عدة محاولات يائسة ، عاقبته بأن كتمت أنفاسه بطاقيتي المطرزة ، لم تكن مدرستي تبعد كثيراً .. انتعلت ماتيسر لي من الحذاء والتي تساقطت عند  باب الدرج  ..

خرجت ميمماً وجهي شطر بيت جارنا .. أعني المدرسة ..!

 (6)

غصت مدرستي بالكويتيين حينذاك الذين نزحوا أثناء الحرب .. كان احتكاكي بهم فعلاً غير مسبوق ، شيئاً لم أعتد عليه فقد كانت الرياض مدينة تتكوم على ذاتها متقنة لفظ الآخرين . كانت تراكمات التجربة تتصاعد لطفل كان يعتقد حتى قبل أسابيع من الحرب أننا لانشبه أحداً ، مختلفين بطريقة ما وجيدين بما يكفي للعزلة .

وجوههم ، نظراتهم الجديدة ، كلماتهم الممطوطة ، لباسهم الفضفاض ، غترهم البيضاء وحتى شتائمهم كانت أحداثاً تجري بشكلٍ آخر .. اقترب مني أحدهم ، لا أعلم لم كنت خائفاً  من صوته الجديد علي :

– هي أنت يا صبّي

– سم

– وش اسمك ؟

– فيصل .. فيصل عامر الحربي

– أنا مفضي جبر ، المكان حر هني ..تعال ندش داخل

– هاه !

– ندش .. ندش داخل

–  يعني وشو !

– ندخل هناك

ضحكت .. دخلنا الفصل الذي كان عبارة عن غرفة نوم جارنا البرجوازي الذي قامت الوزراة بتأجير بيته الشاسع ، جلسنا سوية .. نلتهم ساندوتشاً باللحم المفروم والشطة ،  ونتجرع مشروباً غازياً  .. كنت ألحظ طاقيته ، ياقة ثوبه ، أكمامه وهو يحكي لي عن فصول مدرسته بالجهراء ، تجاذبنا أطراف الحديث كثيراً . عدت للبيت .. وفمي يزدحم بالحكايات التي أنوي سردها عن تلك الكائنات الزائرة لكوكبنا  الرياض .

( 7 )

 كنت مندفعاً قبل أن يصادفني أخي يحمل لاصقاً  ومهرولاً ناحية المجلس ، قلت له وأنا أهرول بشنطتي معه تلقائياً :

– ماهذا ؟

– لاصق ، سنلصق النوافذ

– لم ؟

– والدك يقول ذلك .. يتحدثون عن نية صدام قصفنا بالـ” كيماوي ” ، اذهب للصالة .. فهد أحضر لنا عشرات الأقنعة .

كانت ” تصريفة” جيدة لطفل لحوح .. لكني واصلت الركض معه وشنطتي تقرع ظهري :

– بربك .. دعني أرى

– ليس صنعاً فريداً ، مجرد لاصق أطوق فيه النوافذ  وفمك أيضاً

بدأت بكبح أرجلي .. كنت أفهم أن ” الكيماوي ” هو عبارة عن علبة مبيد حشري كبيرة سيلقيها المجنون صدام علينا من طائراته التي أحببتها تلك ، كنت أقول :

– لسنا ذباباً .. لم سيفعل ذلك إذاً ؟

اتجهت للصالة حيث يجلس فهد وسط أقنعته ،  تربعت بجانبه ، سحبت أحدها وضعت وجهي به .. لم يكن مصنوعاً لي ، بدا ربعه الأسفل فارغاً من وجهي .. أدخلت يدي محاولاً مطّ ذقني المثلث وسط قهقهات ذي الأقنعة ، فهد .. سألته :

– أين مقاسي  ؟

– أنت ترتدي مقاسك الآن ، تبدو كنحلة صغيرة

 وقفت ، مشيت متخبطاً نحو المرآة .. حاولت ترتيب رأسي الجديد  لكني فشلت بينما كان يميل يمنة ويسرة ، قلت بصوت مقنّع :

– و كأني نحلة فعلاً !

أعجبني صوتي الغريب به .. فـ غنيت :

“بشار يا بشار هيا إلى العمل .. اجمع شذى الأزهار من روضة الأمل “

وبشار الوارد اسمه هنا هو يعسوب ضاعت أمه عنه ، فاشتغلنا به وأشغلنا بها وأثار تعاطفنا وهيج بكائياتنا كعادة قصصنا الطفولية العربية . خلعت القناع , وأقسمت برب النحل  أني لن أرتدي شيئاً يشبهه يوماً .

 ( 8 )

 كأنها البارحة ، رغم أن تفاصيلها أصبحت غائرة إلا أن مذاقها لايزال يخيم بأصابعنا .. لم تكن الحرب يوماً جميلة , حتى وإن حاول مرتكبوها التودد لها . 

العالم ليس قرية صغيرة ،  بل غابة صغيرة  يخلع قاطنوها رقاب بعض كي يعتمروا حياتهم  . سيحدث أن أعيش حرباً أخرى يوما ما ، فرفاقي البشر لن يخذلوا حدسي .. لكني ربما لن أملك الأصابع وقتذاك لأرسم وجهي المتعب  ، فخذوا عني طقوسكم الموحشة للبقاء .. آلهتكم .. حربكم .                                                     

 

                                                                                                                                 * يتبع يوما ما 

5 تعليقات

  1. ماجد الثمالي
    5 يوليو، 2013

    كم هي رائعة كتاباتك ..

    لا تتأخر علينا بالباقي ..

  2. أحمد عبد الله
    5 يوليو، 2013

    أحترم ثرثرتك دائما

  3. ريم
    5 يوليو، 2013

    *

    أهنيك على الأسلوب يا فيصل : )

    ذكرتني برواية كوابيس بيروت لغادة السمان .

    وإلى الحين ما أقدر أفهم ليش البشر يحاربوا بعضهم !

  4. عبدالإله الحربي
    19 يوليو، 2013

    حرب الخليج ..
    لطالما حدثتني عنها امي و عن قصة هروبها الى امريكا حيث كان ابي هناك , تلك القصه التي لا امل من سماعها .

    شكرا استاذي فيصل فقد جعلتني اعيش تلك اللحظات و اشعر بها .. معجب بقلمك

  5. حسن الألمعي
    2 أغسطس، 2013

    انت جميل…
    اتمنى يخذلك البشر…
    لا عدمناك…