faisalal3amr1

نطفة البداية

بعد أربع فتيات جميلات.. أطلّ رأسي كي يتفقد العالم ، كانت أمي مسؤولة قبلها عن ذنبِ ألاّ تأتي بصبي !
جئت فغفر المجتمع لها ذلك عام 1982م ، مخلوقٌ نحيل درس سنته الأولى في مدرسة ” الحاكم ” التي تترصدني في طريقي إليها فتاة مخبولة تُلزمني بقراءة سورة الفلق حتى تطلق حال سبيلي ، كل صباح .. كنت أدعو الله بصوتٍ خفيض عليها : ” عساك للموت ” كانت تلك أمنيتي الأولى المهمة .

تقلدت ” المسؤولية ” وطولي لايتجاوز الكلمة تلك ! أذكر أن والدتي – أطال الله عمرها – وضعت نذراً مفاده : إن استطاع ابني أن يصرف 500 ريال فسأوزع لحماً على من يسكن الحارة ، فعلت ذلك بسن السادسة وطارت رقبة الخروف المسكين الذي لم يتفهم معنى كونه ضحية لمسؤوليتي المبكرة .

طفلٌ يكتب

في عام 1993م دسست الراديو تحت أذني حين النوم ، مستمعاً لكل العالم المُختلف عنا ولصوت صغير يقول في رأسي “لحظة ، هناك عالم آخر لا يشبه حارتتا” . وقتذاك ناولني معلمي التونسي “أ. الطاهر عمر” جريدة الحرية التونسية الاشتراكية التي شكلت فيّ ثورة معرفية حمراء لا تشبه شيئاً أعتدت عليه .
كانت لاتحمل إعلاناً واحداً ، لا نعي لا تهاني لا أخبار علاقات عامة ، سماوات من الأدب والفكر يكاد وعي ابن الحادية عشر أن ينوء بحملها ، هي الأخرى أدسها تحت “زولية” مجلس الرجال بعيداً عنهم ، لاتستطيع تخيل ما سيفعله من يكتشف الجريدة تلك ، أو قل من يكتشف أنك تمارس شيئاً مختلفاً عن السائد حتى لو كان تافهاً أو لايفهمه .
في نفس العام اتصل أحدهم بمدير المدرسة “مزيد الشيباني” ليخبره أن طالباً لديه يُدعى فيصل عامر الحربي فاز بجائزة التعبير على مستوى الرياض ، أما موضوع التعبير فكان عن التلوث كتبته بخط يدي على ورق مزخرف أتحدث فيه مطولًا عن أن التلوث شيء غير جيد .
ذهبت مع والدي رحمه الله ومدرس العلوم والرياضيات والدين أحياناً “أ.سامي المراكبي” لتسلم الجائزة من وكيل الوزارة المتأنق في حفل مزدحم بالمصفقين ، حقيبة تحوي كتابين ، علمت بعدها أن الجائزة شملت ألف ريال لكن أحداً ما قرر أن خزينة الدولة أجدر بها مني ، لا .. لن أسامح الحكومة ، أريد مالي !

شريط حياة مسرّع

هرولت السنوات ، درست المتوسطة في مدرسة على سفح جبل حيٍ قبيح السمعة ، لم نكن نملك سيارات حينها ، من يقود واحدة يعتبر صديقًا حتميًا لكل المُشاة ، المتوسطة كانت بيئة عفنة ، التدخين خطيئة ليست مستغربة وحُسن الوجه يعني سوء الحظ ، أما أوقات الفسح فتحفل بدماء الطلاب بعد عراكٍ لسبب تافه وكأنهم ديكة . نشطت في الإذاعة أو حين أتولى تمرين مئات الطلاب عند غياب معلم الرياضة ، أمارس سيطرتي الإنسانية البغيضة عليهم كعادة معظم البشر حين يمتلكون سلطة . كنت مراهقاً أكتب بكل مكان مُسطّح ، كتب الدراسة ، الطاولات ، جدران البيت ، الشارع بل حتى على ذراعي ، خطي المميز يكشف جريمتي إلا أن هدوئي يغفرها . انتهت المرحلة وقد سلبتني أشياءَ أحبها وأشغلني صراعي للبقاء عما أرجو .
ا
لثانوية لم تبعد عنا إلا جداراً ولا تقل وحشة ، هناك الكل يصبح رجلاً تلقائياً ، جدران غرست أعلاها قطع من الزجاج المبشور وأسلاك شائكة ، ممرات الطوابق فُصلت عن بعضها بأبواب فولاذية عليها أقفالٌ محكمة تفتح عند الدخول والانصراف ، كل ذلك حتى لا نهرب .
اخترت القسم العلمي في ذاك السجن ، أما القسم الأدبي فهو للنساء فقط “كما قال لي أحد الكبار واصفًا إياه” .

طحنتني الدراسة لمستقبلٍ لا أعرفه ، الجميع مثلي كذلك ، الآتي لاحَ رمادياً لا وجه له ، عند التخرج يأتي الخيار الأول للكثير من البدو : العسكرية ، الحرس الوطني تحديداً ، ولأن لا واسطة لدى والدي ذهبت لهناك متأملًا أن يحشرني الحظ مع الأسماء المقبولة مسبقًا دون عناء التزلف .
غصّت بنا قاعة كرة السلة نحن الفقراء من الواسطة ، لا نرتدي إلا سراويلنا البيضاء القصيرة ، عشرات العراة ينتظرون الفحص الطبي للتأكد من رجولتهم ، تضاءلت نسب قبولي بعد كل خطوة حتى هربت من الطابور كعصفورٍ بُلل بالمطر ، بعد أيام جاء الخيار الثاني والأخير : كلية المعلمين .
قُبلت في الكلية التي بدت لي الأخت الكبرى للثانوية ، مبنى متهالك ورغبة ميتة كل صباح ، كنت طالباً جيدًا معها واتفقنا على أن نُمضي علاقتنا التي أمتدت لأربع سنوات بلارسوب ، وأن أخرج منها بالمعروف كي أرتبط بالوظيفة الحكومية ، مادامت الكتابة بقرة عجفاء لاضرع لها .

الحياة ليست أمك !

لشاب يمسك وتد الطبقة المتوسطة كي لا تقع على رأسه ، كانت مكافأة الكلية التي لا تتجاوز 800 ريال هي زادي الذي فقدته حين تخرجت في 2005م وسنوات الطفرة تخلع ملابسها ثم تخبرني أن علي إيجاد عمل حتى موعد التعيين أو أن أتدرب على السرقة ، لم أكن أتقن الثانية فتوظفت في شركة للمقاولات في حي السلي براتب 1500 ريال . استفتحت العمل بأرشيف الشركة ، آلاف الملفات الخضراء التي تنتظر الترتيب ، شمرت أكمامي وتملصت من الشماغ أعلى رأسي ، ثم عمل كثير في حقل الأوراق الذي أحرثه كي أحصد المال.
من الوصايا التي زرعها فيّ أبي ، هي أن أطلق النار على رأسي قبل أن أفكر في الغياب عن الدوام المدرسي ، لذا أخذ هذا الالتزام بالنمو فيَّ حتى تجذر .
في يومٍ ما تغيبت عن الدوام في الشركة ، ومع أن أبي سكن القصيم بسنواته الأخيرة إلا أن عبارته “قم ، طارت الطيور بأرزاقها” حامت في رأسي طوال ذلك اليوم الذي جالست جدران البيت فيه ، كان غيابًا محفوفًا بالقلق ، لم أكن بشراً سوياً حتى صباح اليوم التالي .
فتحت باب الشركة فهبّت في وجهي ريح كئيبة ، الزملاء الذين عرفتهم منذ أيام أسدلوا أشمغتهم على جنبات وجوههم ، المكان صامت إلا من همهمات مايقتضيه الشغل ، اتجهت لكرسيِّ وقبل أن أجلس سألت مبارك : ما الذي يحدث ! هل فصلتم جماعيًا ؟ جاء الجواب مقتضبًا : هاني مات أمس !

حسنًا ، إحدى محاولات الحياة للتعريف بنفسها بشكل صادم كي آخذها على محمل الجد ، هاني الرجل الذي حكى لنا قبل يومين عن مباهج الدنيا ومارس علينا خبرته في معرفتها وسخر من تجاربنا القاصرة معها ، مات ، بلا أي تلميح وجدوه على كرسيه شاخصًا ، لم يكن يفصلنا عنه إلا عازل قصير لكن الموت الطويل تجاوزنا واختاره .
وقفت بلا أي تعبير ، أدرت جسدي نحو حقلي الأخضر ، قبل أن يناديني المدير ، دخلت عليه فسألني : أين كنت يوم أمس ؟ لفقت له عذرًا لم أرتبه مسبقًا لقلة عهدي بالأعذار ، قبل أن يقول لي وهو يدفن سيجارته : هذه ليست شركة أمك ، إياك أن تغيب مرة أخرى ، خصمت من راتبك ٢٠٠ ريال ، قلت في نفسي وأنا
أنسلّ ببطء من مكتبه : و هذه الحياة ليست أمي أيضًا .

الكتابة .. مرةً أخرى

في 2009م ، كتبت المقال الأسبوعي الأول في جريدة شمس وجاء بعنوان  ” قبيلة تدعى : وعي “، أذكر أني كتبت 45 مقالاً دون أن أتقاضى ريالاً واحداً ، وكالمنشار كان الرقيب حينها  لا يرحم ولا يفهم ، وهي علامة فارقة في صحافتنا ، بعد سنتين تركت الجريدة مرغماً ، كان رئيس التحرير الأستاذ خالد دراج أثمن ما في التجربة ، رجلٌ لايخطئه القلب .
في نهايات الـ 2010م جلست مع مالك نجر للمرة الأولى واتفقنا على أن نحول المقالات لسلسة كارتونية اتفقنا على تسميتها مسامير وتزامناً مع جمعي لنصوص كتبتها منذ أعوام حتى صارت كتاب ” شغب ” ، نهاية العام ذاك اتصل بي البهيّ أحمد التيهاني ليعرض علي الكتابة في الصفحة الأخيرة أسبوعياً في جريدة الوطن ، نشرت خلالها مقالات كـ : هدر عاطفي ، حيوان ، أيها الفن من رآك ، أحبك نعم أتزوجك لا  ” حُولت لحلقات لاحقاً ” .
استمرت علاقتي بجريدة الوطن لمدة عام قبل أن أترك المكان بفعل الرقيب أيضاً ، الذي لو كان يقرأ هذا سأقول له  : مرحبًا ، منعت كتابي ومقالاتي وموقعي فيما مضى ، الآن أكتب مسامير بحرية ويشاهد النص الذي منعته مليون شخصٍ ، قبل أن تصحو من نومك !
على أي حال ، تفرغت للكتابة في 2013م تاركاً وظيفتي كمعلم بعد 8 سنوات عجاف ، ورغم أن جميع من قابلتهم حاولوا ثني عزيمتي بما فيهم الرجل المسؤول عن توقيع القرار ، إلا أني مضيت قدماً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ !
ثم ، أسست مع مجموعة من الزملاء شركة Myrkott المنتجة لمسلسل مسامير ، سنبر  ، يعرب  و أعمال أخرى .

القفّاز الذي قال لي شيئًا 

كان لدي قفازين رماديين ، استعين بهما على حمل ماتيسر من الأثقال في الصالة الرياضية في محاولة جادة لتذويب الشحوم ، لكن – وبعد وقت قصير – بدأ القفازان بالتشقق ، رفعت كفيّ صابًّا جام أدعيتي على الاستهلاك والرأسمالية ، وفي باطنهما ثقوب اتسعت وخيوط انسلّت .
في محل الملابس الرياضية ، وقفت أمام مجموعة من القفازات المتدلدلة معاتبًا ، لكني سرعان ما اكتشفت بعد تقليبها أن قفازيّ الذين فاضت روحهما ، لبستهما أول مرة بشكل مقلوب ثم اعتدت عليهما بهذا الشكل . تلك الليلة سألت نفسي و ٢٠١٨ تغلق بابها :
أليس هذا هو النداء الأخير للمغادرة ؟
قررت أن أستقيل من الشركة ، راجيًا أن أكون صنعت محتوى لاتتخطاه الذاكرة خلال السنوات الست تلك ، نحو فضاء أرحب وتجربة أخرى .

الجرذي

بعدها بيوم جلست على كرسي المخرج صانعًا لفيلمي القصير : الجرذي ، الذي بذلوا بإنتاجه الرفاق في تلفاز١١ جهدًا استثنائيًا ، وشارك في بطولته زياد العمري و علي الكلثمي والمسرحي البحريني القدير عبدالله السعداوي . حين انتهيت منه أصبحت مديرًا إبداعيًا في الشركة. 

البرزخ ، أما بعد ..

وقبل أن أنسى ، هذا المكان ولد عام 2006 م ، وتعطل مرتين وتم تجديده منذ أشهر .. هو لكم ، وتلك ليست جملة إنشائية لأبين بها تواضعي ، بل لأن العمل إن لم يُشاهد فهو مضيعة شاسعة للوقت ، سأسعد بتواصلكم .

 

                                                                                                          شكرًا لله عليكم