مقهى الخيمة

لوحة Raja Ajmat يدخن – الرسام غير معروف
(1)
98 م ، الحصة تشير للخامسة ، المدرسة الحكومية تغرس الزجاج على حواف جدرانها الخارجية حتى لايهرب الطلاب ، لكنهم يفعلون ذلك ، فهد فايز : أسمر ، سمين و الذي يمتلك سيارة حينها ويتحكم بمصير مشوارنا ، هذه المرة ساقنا لمقهى يدعى ” الخيمة ” مقابل التشليح بجانب الرياض الشرقي ، مقهى منسي تعلوه لوحة لاتدل عليه ، يتشارك رواده تلفزيوناً واحداً في الصالة الداخلية .
الإسمنت الملطخ بالأبيض ، أسلاك الدش ، الموكيت الرخيص ورائحة الدخان ، بنفس الصالة الموبوءة غرفة يفصلنا عنها مايمكن أن يكون حائطاً قصيراً ، هناك يُطبخ كل شيء .
لم يكن في المقهى إلا سائقي الشاحنات المنهكين ، وغريبو الأطوار الذين يمدون ” ليّات ” الجراك وصولاً لأفواههم الكادحة ، جلسنا فطلب فهد شاي بثقة المعلم .
اختطف أحدنا الريموت كنترول ، بدّل القناة المملة ، أخذ يقلب القنوات حتى سقط على قناة روسية ، تتحدث بلغة جديدة علينا وتعرض برنامجاً للأزياء ، لكنهن كنّ عرايا تماماً ، إلا من قبعاتهن ، كان عرضاً سافراً للقبعات !
نحن الصبية الذين لو شاهدوا صورة لـ ” بوسي ” كاشفة العنق في مجلة ذات ورق رديء، تداولوها بحذر كعبوة ناسفة ، وهرّبوها بإتقان كمادة مخدرة ، الآن نرى نساءً لايرتدين شيئاً ، نحيلات كأن مرضاً أصابهن ، يتخطين مجموعة من المهتمين بالقبعات تلك ، صدمنا ، ابتلع من بجانبي ما اختمر بفمه من الشاي ، في حين قال آخر :
– ما كل هذا ؟
و.. صوت ذلك السائق الهرم وهو يسحب نفساً من شيشته يعلو :
– لا إله إلا الله
التفت أحدنا لفهد الذي انشغل بمراقبة مايحدث في الشاشة ، يحثه :
– غيّر يا .. يا فهد .. غيّر
فعل ذلك مرتبكاً.. رتبنا أنفسنا وكأننا لم نرتكب شيئاً للتو ، قلت :
– حسناً .. كيف الحال ؟
كان الدش أمراً نادراً بالرياض ، بل أن عدد من يمتلكه يعدون على أصابع اليد ، ويعيّرون بفعلتهم الشنيعة ، فقناة دبي كانت خزي بحد ذاتها .. أما المقاهي فتغلق بكل مرة يداهمها أفراد الهيئة أو من يحتسب معهم ، لكنها المقاهي الأكثر شهرة وازدحاماً طوال الليل ، فحين تعرض ” Super Movies ” فيلماً للكبار ، يخيم السكون على كل الجالسين ، كلهم ، تنتهي الحكايات حينها إلا من أصوات فرقعة الشيشة ، أو صراخ أحدهم عند عبور لقطة فاضحة وكأنه شاهد هدفاً حاسماً ، كانت سينما بشاشات مصغرة تتوزع بزاوية كل جلسة ، يحتشد فيها الرفاق ، والممنوع.
(2)
فهد عيد ، على أحدهم أن يخلد اسم هذا الرجل ، أن يصنع له تمثالاً تطوف حوله السيارات بدوار ما ، أن يُرسم على لوحة ضخمة يكتب تحتها ” الرجل الذي لن نتمنى موته ” ، فرغم أنه كان جيداً بالفيزياء على الصعيد العلمي ، ويدهشك بقدرة جمجمته الشاسعة على احتواء مايتعلق بالطاقة والكثافة والنظرية النسبية وبقية تلك الأشياء المرهقة ، إلا أن جدارته – بالنسبة لنا على الأقل – تكمن بأن لديه تحفة نادرة ليست عند معظم سكان الجزيرة العربية .
حين تربعنا للمرة الأولى كلٌ يحتضن كتابه و بعد أن كررنا أسئلتنا عن الحال ، شغّل ” أبو عيد ” التلفاز ، رفعت رأسي فإذا بقناة لا أعرفها ، لم تكن تلك التحفة النادرة إلا ” قنوات أوربية لمن هم فوق 18 ” ، ألقيت الكتاب من فوق حضني متنكراً له ، رفعت جسدي الذي زحلق تدريجياً لأرصد مايجري ، بدا لي الأمر تطوراً أكثر جرأة عما شاهدته بالمقهى ، احتقن وجهي ، تصفحت وجه فهد المتماسك اللعين ، أعدت مسار وجهي لسيرته الأولى، كل تركيز علماء الأحياء وهم يشرحون حشرة ملقاة على ظهرها كان في عيني ، ابتلعت ريقي ، اختلطت لدي كل المفاهيم والتابوهات ، شعرت بأن فمي متسخ ، لا أعلم مادخله بالأمر لكني شعرت أني متورط ، خوف عارم من أن يُكتشف ما اقترفت ، فقد كان الناس قانوناً حاداً أقوى من قوانيننا الداخلية ، قطع كل ذلك صوت التلفاز وصديقي الفيزيائي يقفز لقناة أخرى ، أصبح ماشاهدته نظرية جديدة ، تعلمتها مبكراً ، لن يفهمها أحد ، بمن فيهم فهد عيد !
38 تعليقات
Esraa
27 يونيو، 2013رائع.
فيصل العامر
30 يناير، 2014شكراً
منيره
11 سبتمبر، 2013الانتل بقايا الزمن الجميل مبدع يااخي
فيصل العامر
30 يناير، 2014حقبة ماقبل الدش ، أهلاً منيره
ناديا المطيري
27 يناير، 2014هههههههه استمتعت وانا اقرأ تخيلتكم جدامي استمر
فيصل العامر
30 يناير، 2014شكراً على قراءتك ناديا
رند
13 أبريل، 2014كتاباتك جميله ( عشت الحدث معك ) الله يحفظ لك موهبتك
فيصل العامر
25 فبراير، 2015ممتن رند ، أهلا ً بكِ هنا
عبدالله المكاحلة
25 فبراير، 2015يا الهي كم انت رائع ….
تحية مني و من محبينك في الأردن
فيصل العامر
26 فبراير، 2015محبة لك ، وللأردن
سعيد
25 فبراير، 2015ممكن نقول.. الماضي الاسود لفيصل العامر…
انت مبدع يا استاذ..
فيصل العامر
26 فبراير، 2015كان أبيض وأسود ، كالتلفزيونات قديماً .. ممتن سعيد
فيصل
25 فبراير، 2015السرد أكثر من رائع
ننتظر القادم
فيصل العامر
26 فبراير، 2015شكراً يالسمي
Freedom
26 فبراير، 2015الأغلب يا صديقي عاشوا مثل هذه الذكريات الجميلة ربما إن لم ” يتفرنك ” له القدر .. امتعتنا كعادتك .
فيصل العامر
26 فبراير، 2015سلامٌ عليك ، مادمت رفيقاً للثمانينات معي ، وشكراً
وسام
26 فبراير، 2015كنّ عرايا .. تماماً ، إلا من قبعاتهن .. كان عرضاً سافراً للقبعات ..!
احييك على هذا النص البديع , تعجبني تلك القصص التى خرجت من قعر المدينة .
فيصل العامر
26 فبراير، 2015شكراً كثيراً وسام
عبدالمجيد
26 فبراير، 2015جميل يارجل ولا يكفيك
فيصل العامر
26 فبراير، 2015جمّل الله حياتك بالفرح عبدالمجيد ، أهلاً أهلاً
نورة
26 فبراير، 2015مبدع ي فيصل
سافرت بنا عبر الزمن
استمر
لاتختلف جمجمتك عن جمجمة فهد عيد إلا في المحتوى ..
بارك الله موهبتك وحفظها لك .
فيصل العامر
26 فبراير، 2015ممتن لجميل كهذا نورة ، وحمداً لله على سلامتك بعد رجوعك من الماضي
فاضل الشاخوري
26 فبراير، 2015القصه فيها نوع من التشويق وخلط الافكار, واحببت في هذه القصه التي دارت في (زمن الطيبين)
فيصل العامر
26 فبراير، 2015صباح الخير فاضل ، شكراً على قراءتك
نهى العتيبي
26 فبراير، 2015ممتع السرد وطريقة العرض
اتابعك على تويتر
عقل فيلسوف لكن بلغة سهلة قريبة من الناس
فيصل ضمير حي وجرأة في الطرح
فخورة بك
فيصل العامر
27 فبراير، 2015مرحباً بكِ نهى ، تسعدني قراءتكِ كل مرة .. ممتن واللهِ
عبدالرحمن
5 مارس، 2015جمييل
عبدالعزيز
17 فبراير، 2016فعلاً عقل فيلسوف لكن بلغة سهلة ، دايم تقول الكلام اللي ودي اقوله لكن في سياق أنيق وبليغ جداً .. متابعين ❤️
سارة
17 فبراير، 2016تخليد لتلك الأيام ، قرأت معك …
المراهقة بذاكرة من عاشها… تجربة شخصية تعكس البيئة لهذا المجتمع… عندما نقرأ الكاتب بين السطور.. نلمس روحك قبل حرفك ..
دمت بوئام صديقي..
تركي العنزي
17 فبراير، 2016جميله ، كأنني اتصفح روايه ” الحمامه لايطير في بريده ” سرد مُمتع .
سلطان
17 فبراير، 2016عشت هذا الزمن بكل تفاصيله…
كأنني كنت في الجلسة المجاورة لكم…
.شكرا لك أ.فيصل…
فقد جعلت هذه الأسطر لفنجان الشاي معي …طعما آخر
Ayman Ziyad
18 فبراير، 2016يا الله يا أخ فيصل ، لقد أحييت ذكريات 20 عام مضت كلمة البرق، ربما لأنها كانت بسيطة وأكثر من رائعة مثل قصتك التي أشعر وكأني عشتها فيما مضى،،
شكرا لك،،
أحمد
18 فبراير، 2016أحييك أخ فيصل،،،، وبانتظار فيلم مسامير.
أحمد
19 فبراير، 2016مبدع كعادتك،،اتمنى ياخي اقابلك معجب باعمالك،،، بالتوفيق
خطاب الحريرات
28 فبراير، 2016نص رائع وانتقاء راقي للكلمات .
حقبة الابيض والاسود كانت أسود بالنسبة للبعض ، وأبيض للبعض الاخر .
MUNIRA
2 مارس، 2016اذكر تماما اليوم الذي دخل فيه الدش خلسة الي سطح منزلنا ونحن الذين من الله علينا بالسكن في وسط حي يعج بالصالحين ، اذكر تماما انه كان بالليل .ولاني بالشرقيه فايام التلفزيون ابو انتل كانت قنوات الكويت والبحرين الارضيه تطلع عندنا فما كان عندي اشكاليه من ان انولدت لووول
A
30 أكتوبر، 2017استمتعت بالقراءة مع اني لم افهم سبب اختيارك للعنوان
🙂
راشد فرحان
30 أكتوبر، 2017اسلوبك بالكتابة يا فيصل، كأني اقرأ رواية لشكسبير. مشيّق جداً وتضمين رسالتك رائع. أتمنى يوم أقرى لك رواية فعلاً رواية، خيالك خصب يافيصل حرام ماتكتب رواية.