حمّاد ضامي

الفنان الإسباني Mariano Fortuny

عام ١٩٩٥م ، سرى خيط رفيع من الدم، جفت أطرافه وهي تحد لونه الأسود الممتد حتى منتصف الحوش، وقفت أتبعه بنظري حتى وصلت لجثة هامدة أمام باب المدخل، متكومة لم أرَ منها إلا الرائحة.
كان الوقت صيفًا، شمسٌ تسلب الحي البعيد شوارعه فتخفي ناسه في حجراتهم المكيفة، وتشعل الأسئلة منذ أسبوع: أين غاب الرجل الذي يملك كل البنايات التجارية على شارع الثلاثين “حمّاد ضامي”؟ هذا السؤال صار حكاية تصدرت أحاديث الناس واستضيفت بين مجالسهم و خيالاتهم، افترس حماد السكري قبل أن نسكن دوره العلوي الذي أجره لنا بـ ٩ آلاف، يزيده كل سنة حتى مات، لم يكن يمنعه مرضه من الذهاب لدكاكينه كل عصروجمع ماتيسر من ربح اليوم، ليدسها في حقيبة حديدية رُسم عليها طاؤوس أخضر لايكاد يراه من أثر الغبش الذي أصاب عينيه.

مرة، مد لي 500 ريال كي أشتري له بريالين خبز بر، وأن أعود بالثلاثة ريالات الباقية، فركتها متعجبًا ومددت يدي لأرجعها في جيبه فعصرها عاليًا نحو نور النجفة ليتأكد من خطئه، ثم جذبني من أذني بيده الأخرى نحو كرشته وهو يضحك “أدري إنها ٥٠٠ يا الملعون، كنت أختبرك”كذب علي كي لايكافئ أمانتي، ابتلعت الغصة وقفزت لأفتح له الباب الذي لم يغيره منذ أضاع مفتاحه، ثم أوصده قبل أن أحتج. لم يعبر حماد نعالنا المتكومة كعارضتين لمرمانا هذه المرة، مر أسبوع لم نلغي الهجمة لأجله ونجلس على الأرض في انتظار أن ينجلي عن الشارع ولو ببطء. مر أسبوع لم يره أحد!

في يوم جمعة، كنت قد تجاوزت الـ١٣ عامًا قبلها، طاف أبي يسأل من يعرفونه سر غيابه، لا أحد يعلم أين اختفى، هل سافر مع المرأة التي كانت تحوم حوله طمعًا أم أنه أحدًا خطفه رغم أنه سيتورط بمن يفاوض للفدية، فقد كان حمادًا مقطوع من شجرةٍ طمرتها النفوداتفق أبي مع جارنا “عبيد” أن أقفز للحوش كي أفتش عنه والقلق أعلى من أصواتهم التي تمثل الهدوء أمامي. شبك عبيد يديه، فلكزني أبي للصعود عليها ثم فوق طبلون الكهرباء أسفل السور حتى تزحلقت خادشًا قدمي لحوش حماد بعدهافي الأعلى وخلف شباك مجلس الرجال كانت أمي تسبرني منشغلة علي ثم على قدمي المفطورة، مثلت المشي أطأ العرج كي لاتقلق حتى اقتربت من باب المدخل .
كان مارأيت أعتى من أن يُمحى أو يقال، معتق في ركن بارد من الذاكرةكان حماد منتفخًا ساجدًا على وجهه، زحف الشماغ عن رأسه نحو ظهره، سبقه يومه الأخير قبل العتبات الخمس . بجانبه بيضة طير مهشمة سقطت من نافذة صالتنا، خرج منها رأس عصفور صغير أكله النمل ورائحة لحم فاسد تصدني عن الاقتراب، المكان يلف حولي والأرض تقترب من وجهي وقدماي تتأكّلانحملت جسدي بيدي نحو الباب، تظللني نداءات أمي وشتائمها ودعواتها ” فيك شي؟ أظهر نعنبوك وش منقزك الحوش” كانت المسافة تتفاقم وكأني لن أصل للخلاص، فتحت الباب لأبي وقبل أن يصفعني عرف أي مصيبة حلت حين مر وجهي نحو الجسد المتكوم خلفي يتبعه عبيدهناك زمن مفقود منذ بيت حماد حتى تكومي تحت بطانيتي، التي بدأت تعلوها أنوار الإسعاف ثم الشرطة ملونة الحوش الرمادي وجدار المقلط الذي أختبئ فيه، أمام شارع امتلأ بزحام الفضوليين الذي تخلفوا عن صلاة الجمعة والإمام يخطب عن الحياة الفانية.

1 تعليق

  1. شخص
    11 فبراير، 2022

    كنت صغيرا حين انبهرت بالأفلام التي كانت تعرضها القناة الثانية كل يوم ثلاثاء في الساعة الحادية عشر مساء
    اليوم طرق بابي عامي الأربعون ولا أزال أتابع الأفلام لكن بعيدا عن القناة الثانية .. إنها متعتي في هذه الحياة
    كلمات والأفلام الراقية هم كل ما انتظر ..

    رد

اضافة تعليق